تاج "عرش العراق"..واتفاقية فيصل- وايزمن"رؤية متأخرة"
طاهر البكاء
1/15/2020


هذا المقال يهدف إلى الإجابة على سؤال يقول: هل كان الأمير فيصل بن الحسين أول المعترفين بوعد بلفور وإعطاء فلسطين للمنظمة الصهيونية مقابل بقائه وضمان عرش ما له؟
ابتداءً لابدّ من القول إنّ هذه الرؤية لا تنتقص من الأمير – الملك فيصل كسياسي وقائد محنكٍ ، بل تبرز عمق تفكيره وبُعدَ نَظَره ، ووضوح الرؤية لديه .
فبعد حصول تفاهم بين الشريف الحسين بن علي ملك الحجاز ومكماهون عبر مراسلاتٍ للفترة من 14 تموز 1915 إلى 10 مارس 1916 "[1]"، أعلن الشريف حسين الثورة على الدولة العثمانية في الثاني من حزيران 1916 ، وعيَّن ابنه الأميرَ فيصلاً قائداً للجيش العربي الذي استطاع بدعم مباشر من القوات البريطانية الزحف شمالاً والوصول الى دمشق التي اتنسحب منها العثمانيون أواخر كانون الأول 1918 ، فدخلها الأمير فيصل ، وشكل الحكومة العربية فيها.
وفي الوقت الذي تفاهمت فيه بريطانيا مع الشريف حسين كانت قد تفاهمت مع فرنسا عبر معاهدة سايكس – بيكو 16 آيار 1916 لتقاسُم النفوذ بينهما ، فتكون سوريا ولبنان من حصة فرنسا "[2]" واستناداً لتلك المعاهدة رفضت فرنسا إعلان الحكومة العربية، وأرسلت قواتها الى سورية وألحقت الهزيمة بالجيش العربي في معركة ميسلون ، وبها انهارت حكومة فيصل في دمشق.
على إثر ذلك سافر الأمير فيصل الى باريس لحضور مؤتمر السلام الذي عقد بشكل متقطع في باريس للمدة من 18 كانون الثاني 1919 إلى 21 كانون الثاني 1920.
لم يسمح رئيس وزراء فرنسا جورج بنيامين كليمنصو للأمير فيصل حضور المؤتمر ممثلاً للعرب ، مما اضطُر الأمير فيصل الذهاب إلى لندن للتفاهم مع رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج .
تعرّض الأمير فيصل في لندن إلى ضغوط هائلة من قبل الحكومة البريطانية والوكالة اليهودية ، من أجل الإعتراف بالوعد الذي قطعه آرثر بلفور وزير خارجية الحكومة البريطانية في الثاني من تشرين الثاني 1916 للوكالة اليهودية لتأسيس وطنٍ قومي لليهود في فلسطين ، والمعروف بوعد بلفور.
أدرك الأمير فيصل ، بما يمتلكه من حنكة سياسية وبعد نظر ، أنّ كل ما بذله العرب خلال ثورتهم الكبرى سيذهب هباءً ، ومن المستحيل تحقيق أي شيء ، ولا مستقبل سياسياً له هو شخصياً إنْ لم يتفاهم مع الوكالة اليهودية بزعامة حاييم وايزمن. لذا دخل في مباحثات أسفرت عن توقيع اتفاقية عُرفت باتفاقية فيصل – وايزمن الموقعة في الثالث من كانون الثاني 1919 "[3]".
كتب الأمير فيصل تحفظاته على الاتفاقية تحت توقيعه بعبارة تقول: " يجب عليَّ أن أوافق على المواد المذكورة أعلاه، بشرط أن يحصل العرب على استقلالهم كما طلبت بمذكرتي المؤرخة في الرابع من شهر يناير سنة 1919 المرسلة إلى وزارة خارجية حكومة بريطانيا العظمى. ولكن إذا وقع أقل تعديل أو تحويل بالمطالب الواردة بالمذكرة فيجب أن لا أكون عندها مقيداً بأية كلمة وردت في هذه الاتفاقية التي يجب اعتبارها ملغاة لا شأن ولا قيمة قانونية لها ويجب أن لا أكون مسؤولاً بأية طريقة مهما كانت".
لنبدأ بمناقشة الاتفاقية من التحفظات التي كتبها الأمير فيصل تحت توقيعه، هل كانت لها قيمة فعلية ؟ وهل تؤثر في مضمون الاتفاقية؟ واضح من الناحية الشكلية والقانونية أنها لا قيمة لها. إذ أن المذكرة التي قدمها الأمير فيصل في 4 كانون الثاني 1919 ، أي بعد يوم واحدٍ من توقيعه الاتفاقية مع وايزمن، كانت موجهة الى وزارة الخارجية البريطانية، التي لم تكن طرفاً رسمياً -من الناحية القانونية وليس الفعلية- في الاتفاقية بين الأمير فيصل و وايزمن. لذا لا تُرتِّب تلك التحفظات حقوقاً قانونية وحتى أدبية على وايزمن والمنظمة الصهيونية.
من المفيد أن نذكر هنا أنَّ المراسلات بين الشريف حسين ومكماهون 1915 – 1916 قد ذكرت استعداد بريطانيا الاعتراف باستقلال العرب ضمن الحدود التي اقترحها الشريف حسين "مع استثناء أجزاء من سوريا غرب إقليم دمشق وحمص وحماة وحلب "[4]". يثير هذا الاستثناء علامات استفهام وتساؤلات. لماذا هذا الاستثناء؟ وكيف وافق عليه الشريف حسين؟ و هل كان البريطانيون قد استثنوها كي يصدروا وعد بلفور لاحقاً؟.
للإجابة عن هذه الأسئلة لابد من القول إنّ هذا الاستثناء كان ضمن مخططات بريطانية في المنطقة غير معلنة. ولم يكن تحديدها بغرب دمشق وحمص وحماة وحلب –بحسب الظن- إلا بهدف إقناع الشريف حسين من أن تلك المناطق فيها أغلبية مسيحية ولها وضع خاص. ولا أعتقد أنها تتعلق بوعد بلفور لأن فلسطين تقع جنوب دمشق وليس غربها.
وفي اعتقادي أن الأمير فيصل كتبها لتجنب غضب والده الذي كان رافضاً لوعد بلفور بشكل مطلق، والذي لم يعرف به عندما تبادل الرسائل مع مكماهون. وبسبب ذلك الرفض فقد الشريف حسين ملكه فقد قطعت بريطانيا المساعدات عنه وسمحت لابن سعود، الذي اعترف بوعد بلفور، بمهاجمة الحجاز وضمّه الى ملكه. قامت بريطانيا لاحقاً بأخذ الملك حسين أسيراً إلى قبرص، حيث عاش هناك في وضع مذل وعوز مالي فرضته عليه السلطات البريطانية هناك.
لنعد إلى نص الاتفاقية ونبدأ من ديباجتها فقد تم فيها تعريف شخص الملك فيصل "بأنه ممثل المملكة العربية الحجازية والقائم بالعمل نيابة عنها" أي ليس ممثلاً للمملكة العربية التي نص عليها اتفاق والده مع مكماهون ، الذي أعلن الشريف حسين بموجبه ثورته على الدولة العثمانية. وفي سياق هذا الوصف لا يحق له التفاوض نيابةً عن الفلسطينيين أو العرب الآخرين، ولا أنْ يوقع مع حاييم وايزمن على أي اتفاق لإتخاذ أقصى ما يمكن من سبل التعاون بينهما لتًقدم الدولة العربية أي -الحجاز- وفلسطين. وبهذا إعترف فيصل - بشكل جلي - بأن فلسطين ليست جزءً من الدولة العربية.
أوجَبت المادة الأولى من الاتفاقية سيادة أقصى النوايا الحسنة والتفاهم المخلص جميع علاقات والتزامات الدولة العربية وفلسطين. وللوصول إلى هذه الغاية تؤسس ويحتفظ بوكالات عربية ويهودية معتمدة حسب الأصول في بلد كل منهما. يفهم من هذه المادة أن هناك طرفين هما الدولة العربية ، ويقصد فيها الحجاز وفلسطين مع اعتراف من فيصل بوكالة يهودية في فلسطين.
ومن غرائب الاتفاق أن فيصلاً أخرج فلسطين خارج أراضي الدولة العربية التي كان والده يطالب بها في مراسلاته مع مكماهون، الأمر الذي نصّت عليه المادة الثانية بقولها إن الحدود النهائية بين الدول العربية وفلسطين يتم تحديدها من قبل لجنة يعيّنها الطرفان المتعاقدان بعد مؤتمر الصلح.
وافق الأمير فيصل على أنْ يتضمن دستور فلسطين المزمع إصداره على اتخاذ كل الإجراءآت التي تسهل تنفيذ ما وعدت به الحكومة البريطانية في بيانها المؤرخ في اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني سنة 1917. والمعروف بوعد بلفور . وهذا ما تضمّنته المادة ثالثاً من الاتفاق.
تضمَّن نص المادة الرابعة وجوب اتخاذ جميع الإجراءات لتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين على مدى واسعٍ، والحث عليها بأقصى ما يمكن من السرعة، وضمان استقرار المهاجرين عن طريق الإسكان الواسع والزراعة الكثيفة. وقد أشارت فقرة في هذه المادة تخص الفلاحين والمزارعين المستأجرين العرب بالقول:"ولدى اتخاذ مثل هذه الإجراءات يجب أن تحفظ حقوق الفلاحين والمزارعين المستأجرين العرب ويجب أن يُساعَدوا في سيرهم نحو التقدم الاقتصادي".
فضلاً عما تقدم فقد اشارت بقية المواد إلى الحريات الدينية بحيث لا تسنُّ أنظمة أو قوانين تمسها. كما نصت على وضع الأماكن الإسلامية تحت رقابة المسلمين، بالإضافة إلى التعاون الاقتصادي بين المنظمة الصهيونية والدولة العربية.
يبدو أن فيصلاً قد أغلقت أمامه الأبواب ، وتم استدراج رجليه إلى هذه الاتفاقية حتى أنّه وافق مضطراً على إحالة كل نزاع قد يُثار بين الفريقين المتنازعين إلى الحكومة البريطانية للتحكيم. وهو العارف حدَّ اليقين أن الحكومة البريطانية هي صاحبة مشروع إقامة دولة "يهودية" في فلسطين.
علينا أن نعيش المحنة التي وقع فيها وعاشها الأمير فيصل، فبعد أن وثِقَ والده بالوعود البريطانية وأعلن الثورة على الدولة العثمانية وحَرَّكَ الجيوش بقيادة ولده الأمير فيصل لمساندة القوات البريطانية في جهودها لتحرير الأراضي العربية من الاحتلال العثماني الذي دام أربعة قرون عجاف، وجد فيصل نفسه في وضع لا يُحسد عليه بعد أن تم طرده من دمشق من قبل الفرنسيين ، كما مرَّ سلفاً.
لم يبق أمامه إلا الاستعانة بحليفة والده بريطانيا فذهب إليها فوجد الفخاخ منصوبة له ، والأبواب مغلقة أمامه، فعمل بالمثل العراقي "منهوب النص مو منهوب" أي الذي يُسرق نصف ما يملك لم يكن مسروقاً.
و استناداً إلى موازين القوى في حينها، عمل فيصل بمقولة "ما لا يدرك كله لا يترك جله"أي أنه إذا عَجز شخص ما عن الإتيان بأمر ما؛ فهذا لا يعني أنْ يتركه بالكلية؛ بل يأتي منه ما استطاع. ولما كانت السياسة فن الممكن كما يقال ، لذا مد خطوطه و متَّن علاقته مع السلطات البريطانية، القوى العظمى في العالم ، حينئذ، لينقذ ما يمكن إنقاذه من بلاد العرب و يضمن له ولعائلته مكاناً تحت الشمس.
هنا فإني لا أبرر للأمير فيصل أو أدافع عنه بقدر ما أسلط الضوء على ظروف عاشها الأمير فيصل. وهذا ما تعرض له الفلسطينيون في تسعينيات القرن العشرين فوقعوا اتفاقيتي أوسلو 1 و أوسلو 2 والتي بموجبهما اعترفوا بالدولة الإسرائيلية. وفي أيامنا هذه يندفع قادة دول عربية للاعترف باسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها مع أنهم لم يتعرضوا لما تعرض له الأمير فيصل أو الفلسطينيون بزعامة ياسرعرفات.
أختم قولي بأن الأمير فيصلاً لم يكن متاحاً له أن يكون ملكاً على العراق و لا أن يصبح أخوه عبد الله أميراً على شرق الأردن لو لم يتفاهما مع بريطانيا. وفي التاريخ والحاضر شواهد كثيرة شاخصة أمام أعيننا.
[1]- ينظر ، الوثائق الرئيسية للقضية الفلسطينية ، إصدار الجامعة العربية ، المجلد الأول ، القاهرة 1957 صص 6- 28. جورج أنطونيوس، يقظة العرب، بيروت 1974 ، ص 575. د. طاهر خلف البكاء ، فلسطين من التقسيم إلى أوسلو 2 ، 1937 – 1995. بغداد 2001 ، ص 18. [2]- سميت بهذه الإتفاقية نسبة إلى مارك سايس المفاوض البريطاني و جورج بيكو المفاوض الفرنسي ، وهما اللذان أبرما هذه الإتفاقية نيابةً عن حكومتيهما. و إعتمدتها روسيا فيما بعد. [3]- للتفصيل ينظر : http://www.marefa.org/index.php/%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9_%D9%81%D9%8A%D8%B5%D9%84-%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%B2%D9%85%D8%A7%D9%86 [4]- الوثائق الرئيسية ، مصدر سابق ص ص 6 – 28 ؛ هنري كتن ، فلسطين في ضوء الحق والعدل ، بيروت 1970 ، ص 9؛ طاهر البكاء ، مصدر سابق ، ص 20.