كلمتي في الندوة التي عقدها المركز الوطني للدراسات المستقبلية و الاستراتيجية في القاهرة 12 – 13 تشرين 2005
طاهر البكاء
10/23/2005


كلمتي في الندوة التي عقدها المركز الوطني للدراسات المستقبلية و الاستراتيجية في القاهرة 12 – 13 تشرين الأول 2005 ، تحت عنوان:
الدستور العراقي .. رؤية مستقبلية للتداعيات الداخلية .. و الانعكاسات الإقليمية
بسم الله الرحمن الرحيم
سيداتي و سادتي
رمضان مبارك وكل عام و أنتم بألف خير
إبتداءً ، أسجل شكري و تقديري للمركز الوطني للدراسات المستقبلية والاستراتيجية على مبادرته لعقد هذه الندوة الموسومة " الدستور العراقي .. رؤية مستقبلية للتداعيات الداخلية .. و الانعكاسات الإقليمية" ولعنوان الندوة مغزىً واضح و معبر.
سادتي الأجلاء:
أعتذر عن أي نقص في هذه الورقة ، فانها أعدتْ على عجالة صباح هذا اليوم، ولابد أن تُغنى بملاحظاتكم و مداخلاتكم.
يعلم الجميع أن العراق شهد وضع أول قانون ينظم العلاقات بين بني البشر، إلا أنّ العراق كغيره من أقطار الشرق العربي و الإسلامي لم يُحكَم إلى حدٍ كبير على وفق قواعد قانونية و دستورية ، بل إن تاريخه منذ عهد المسلمين وليس الإسلام يحدثنا عن حكم عائلي وراثي ملكي ، لا يحمل من الإسلام إلا اسمه و من القرآن إلا رسمه.
و في العراق الحديث و المعاصر وضع أول دستور عراقي بعد الحرب العالمية الأولى عام 1925 ، و هو الدستور الدائم الوحيد ، و الذي انتهى العمل فيه إثر سقوط النظام الملكي عام 1958، ليعيش العراق بعدها تحت حكم عدة دساتير مؤقتة ، تركزت السلطات فيها إما بيد مجلس قيادة ثورة أو رئيس جمهورية.
أما مشروع الدستور الأخير الذي طرح في عهد حزب البعث 1991 ، فإنّه و إنْ سمح بالتعددية الحزبية ، و ضَمَنَ حرية الصحافة والحريات الفكرية ، إلا أنه فرض عليها أن تؤمن بمبادئ "ثورة 17- 30 تموز" ، وبهذا ألغى كل معنى للحريات التي نص عليها الدستور ذاته.
في ظل ظروف الحروب و الحصار في العقدين الأخيرين من القرن الماضي تركزت السلطات كل السلطات بيد شخص واحد ، انفرد بالحكم و أصبح يحكم بما يشبه نظرية الحق الإلهي أو اقترب منها ، ، كلمته قانون ، و أخطاؤه صحيحة ، وهو الدولة والدولة هو ، و أنه مسدد بالعناية الإلهية ، لا يقبل الرأي الآخر، بل ليس هناك مَن يجرؤ على طرح رأي أمامه ، و لم يكن هناك هَمٌ لدى رجال الدولة و الحزب سوى "التسبيح بحمده".
تجاهل الحاكم الفرد المعطيات الداخلية والخارجية والتحول الأمريكي الخطير بعد أحداث الحادي عشر من أيلول ، و اختلال التوازن العسكري بين بلاده وما حشدته الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة ، فخاض رحى حماقته العسكرية الأخيرة. التي أوقَعَت البلاد تحت الاحتلال والتي عمدت سلطاته إلى حل المؤسسات العسكرية و أجهزة الشرطة و قوات الحدود العراقية. وبهذا فَتحت البلاد لمن هب و دب.
بسقوط النظام و اكتمال الاحتلال عادت القوى و الأحزاب و الشخصيات التي كانت تشكل معارضة للنظام تمارس جُلَّ نشاطاتها في الخارج ، لتعمل بحرية مطلقة في الداخل ، لم يألفها العراق والعراقيون من قَبل.
بعد مدة من الزمن وافقت سلطات الاحتلال على تشكيل "مجلس الحكم" الذي مُثّلت فيه أغلب مكونات الشعب العراقي ، القومية و الدينية و المذهبية و السياسية ، استطاع هذا المجلس تشريع قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية ، و تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة في 30 حزيران 2004.
إن قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية على الرغم من أنه نتاج مؤسسة قامت على محاصصة قومية و مذهبية و سياسية ، وما أثير حوله من ملاحظات يُعَدُ ولو نظرياً ، أكثر تقدماً و قبولاً و موضوعية، فقد فصل فصلاً حقيقياَ بين السلطات بخلاف جميع الدساتير العراقية التي سبقته في العهود الجمهوية ، فضلاً عن ذلك وضع توقيتات ملزمة تقود البلاد إلى وضع دستور دائم ، وهو موضوع بحثنا في هذا المساء.
الجمعية الوطنية و كتابة الدستور:
أسفرت الانتخابات التي جرت في 30 كانون الثاني 2005 عن فوز قائمة الإئتلاف العراقي الموحد بمائة و واحد و أربعين مقعداً ، و قائمة التحالف الكردستاني بخمسة و سبعين مقعداً ، و القائمة الوطنية العراقية بواحد و أربعين مقعداً من مجموع مقاعد الجمعية الوطنية البالغة 275 مقعداً.
عٌقد اتفاق بين قائمتي الائتلاف العراقي الموحد و قائمة التحالف الكردستاني لضمان أغلبية الثلثين في الجمعية الوطنية ، النسبة المطلوبة لتشكيل مجلس الرئاسة ، و أقر الجانبان مبدأ "التوافق" بين الكتلتين في تشكيل الحكومة و السياسات الأخرى ، ومنها كتابة الدستور.
على مبدأ التوافق شُكلت اللجنة الدستورية من 55 عضواً من أعضاء الجمعية الوطنية، كان منهم 28 من قائمة الائتلاف العراقي الموحد و 15 من قائمة التحالف الكردستاني و 8 من القائمة العراقية ، كنت أحدهم و 4 آخرون من قوائم أخرى يمثلون مكونات الطيف العراقي الجميل.
أدرك الجميع أن الدستور لا يمكن إعداد مسودته استناداً للاستحقاق الانتخابي، بل لابد أن يكون العمل فيه على أساس أن الدستور "استحقاقٌ وطنيٌ" ، خاصةً و أن الجميع محكومون بالفقرة (ج) من المادة (61) من قانون إدارة الدولة المؤقت التي نصت على:
"يكون الدستور ناجحاً و مسودة الدستور مصادقاً عليها عند موافقة أكثرية الناخبين في العراق، و إذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر"
إن هذه المادة ذاتها متناقضة ، ففي شطرها الأول تتفق مع المعايير الديمقراطية، وفي شطرها الثاني تفرض دكتاتورية أقلية و تلغي أصوات ملايين الناخبين ، فقد أعطت تلك المادة حق النقض "الفيتو" للأقلية على الأغلبية.
إن هذا القيد ، و الرغبة بمساهمة الجميع بكتابة الدستور دفعا القائمين على الأمر للعمل بمبدأ التوافق ، لكن هذا المبدأ لم يلغ الاستحقاق الانتخابي للقائمتين الرئيستين ، الائتلاف العراقي الموحد و التحالف الكردستاني ، اللتين لعبتا الدور الرئيس في كتابة مسودة الدستور. و لتحقيق الرغبة بمساهمة جميع العراقيين بكتابة الدستور ، جرى إشراك ممثلين عن "العرب السنة" الذين قاطعوا انتخابات الجمعية الوطنية، المكلفة بكتابة مسودة الدستور و إقرارها.
تابعت الصحافة و القنوات الفضائية المختلفة مراحل كتابة الدستور ، و قيل فيه كلامٌ كثير من مدحٍ و قَدحٍ ، لدرجة أنّ القادحين ادعوا أن الدستور كُتبَ من قبل السلطات الأمريكية. لكن الواقع أثبت عكس ذلك.
إن الحقائق التي لابد أن نخلُص إليها من هذا العرض السريع هي:
1- إن مسودة الدستور كتبتها أيادٍ عراقية و بمشاركة واسعة من أغلب شرائح المجتمع العراقي ، القومية والدينية و المذهبية و السياسية ، و منظمات المجتمع المدني ، لكنّ هذا لا يُلغي وجود جهود خارجية لتقريب وجهات النظر ، كانت على مستوى رؤوساء الكتل و زعماء الأحزاب.
2- تابع الجميع الآراء المطروحة و ناقشوها بوسائل مختلفة ، الأمر الذي حقق مشاركة شعبية واسعة ، و وعياً دستورياً لم يألفه الناس من قَبل.
3- انحصرت نقاط الخلاف بشكل أساس حول إقرار مبدأ الفدرالية و ما يتصل بها على مستوى السياسة و الاقتصاد و كذا هوية العراق.
4- أنهت مسودة الدستور و إلى الأبد الحكم المركزي الشمولي ، و اعتمدت اللامركزية و الاتحادية أسلوباً لتوزيع السلطات ، و هذا أمرٌ لم نعرفه من قبل ، بل إن أغلب بلدان المنطقة لم تتعامل معه فيما سبق.
التداعيات الداخلية المتوقعة:
لعل هناك مَن يخشى أن يؤدي النظام الفدرالي إلى تفكك دولة العراق القائمة ، و هو تخوف مشروع ، لكن الوقائع التاريخية تؤكد عكس ذلك تماماً ، فشيعة العراق الذين يُتَهَمونَ بالولاء إلى إيران ظلماً وعدم فهمٍ، إنما هم عربٌ ولاؤهم للعراق ، و أثبتت الحقائق التاريخية القديمة و الحديثة والحروب أن ولاءهم الوطني يتقدم على كل ولاء ، بما في ذلك الولاء المذهبي ، وهنا يُطرح تساؤل ، متى كان العامل المذهبي يتغلب على العوامل الأخرى الوطنية ، القومية ، المصلحية؟ وهل وَحّدَ المذهب أو الدين دولاً عربية أخرى متجانسة مذهبياً و دينياً و قومياً؟!.
أما الأكراد فإنهم كانوا مستقلين عملياً عن الحكومة المركزية منذ أكثر من عقد من الزمن ، و لهم وضعهم الخاص ، و من حقهم الاختيار بين البقاء موحدين مع العراق أو اختيار طريقٍ آخر، و قد اختاروا البقاء في العراق بصيغة تكفل لهم خصوصيتهم و حقوقهم على قدم المساواة مع عرب العراق ، و أن مصالحهم تدفعهم إلى ذلك دفعاً و بقوة، و أن انفصالهم مرتبط بالمعادلة الإقليمية و الدولية ، و أن أكراد العراق يحتمون بالوطنية العراقية من دول الإقليم.
و هنا نتساءل: لماذا كل هذا التخوف على العراق من النظام الفدرالي ، وهو مطبق في دول عدة ، وكان من عوامل توحدها، منها دولة الإمارات العربية المتحدة ، و الهند ، و ألمانيا ، و الولايات المتحدة الأمريكية ، وكندا و غير ذلك كثير.
وما يثير علامات استفهام، وعلامات تعجب، جملة أمور أهمها: كيف لنا أن نتخوف من مبدأ يُرسي وحدة حقيقية شعبية قائمة على أسس متينة ، و نتمسك بنظام مركزي شمولي يفرض الوحدة بالقوة و الحديد والنار.
إن كل المؤشرات و المعطيات الإقتصادية و التاريخية و السياسية و الإقليمية و الدولية تشير إلى أن النظام الفدرالي سيوحد العراق و يجعله مركز إشعاع في المنطقة.
قيل الكثير عن هوية العراق و عروبته في الدستور ، وهنا لابد من القول إن العراق بعربه و كورده و تركمانه ، انتصر لقضايا العرب، ودفع لها ما لم يدفعه عرب أقحاح آخرون، فالعروبة تُمتحن بالأعمال لا بالأقوال و الشعارات.
نعتقد أن العراقيين في ظل النظام الفدرالي الديمقراطي سيعيشون حياة لم يألفوها من قبل ، تتحقق فيها المساواة و التوزيع العادل للثروة، و التداول السلمي للسلطة و تعزيز الوحدة الوطنية عملياً، وإماتها على أسس راسخة و متينة.
التداعيات الإقليمية المتوقعة
ابتداء لابد من التأكيد أنّ الإقليم المحيط بالعراق وبحكم كون العراق من الدول المحورية في المنطقة، يتأثر بتطورات الأمور في العراق، سلباً وإيجاباً. فإذا ما تدهورت الأمور في العراق لا سمح الله، فإن الإقليم لن ينجو منها، ولو بدرجات متفاوتة.
أما إذا استقرت الأوضاع فيه، فإنّ هناك تداعيات وانعكاسات على الإقليم المحيط بالعراق وما بعده، يمكن رسم مؤشراتها كالتالي:
أ- إيرانياً:
على الرغم من أنّ النظام في إيران يقوم على هامش واسع من حرية الاختيار للمواطنين، لكنّ نظرية "ولاية الفقيه" المقرّة دتسورياً، قيّد تلك الحرية الى حد كبير، الأمر الذي جعلها موضع انتقاد، بل رفض. فعندما تجربة العراق التي لا يمارس فيها الفقيه دوراً دستورياً أو قانونياً عند ذلك ستموج الأرض من تحت أسس بنيان تلك النظرية. وأستطيع القول إن رياح تغييرها ستهبّ من النجف الأشرف.
إنّ إيران شأنها شأن العراق، بلدٌ متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وأن القوميات غير الفارسية لم تكن أقليات، بل مكوّنات رئيسة كبيرة، وأنها ولا شك ستتأثر بالنظام الفيدرالي في العراق. وقد ظهرت بوادر التأثير بشكل مبكّر في إقليمي كردستان وعربستان، وتلك مقدمات لها نهايات.
ب- خليجياً:
لابد من رصد مؤشرات لها دلالاتها، فالانظمة في الخليج العربي وراثية ملكية، تستند إلى قواعد اقتصادية أحادية المصدر، وإلى قاعدة دينية سلفية، والقرار السياسي فيها حكرٌ على الأمراء من العوائل الحاكمة.
أدّت التحوّلات في الإدارة الاقتصادية والانفتاح على الاقتصاديات العالمية، والارتباط بها إلى ظهور طبقة جديدة من المتعاملين في أسواق الأوراق المالية والبنوك والشركات، مؤثرة في الحياة اليومية، وتسعى للمشاركة في العملية السياسية، بل ورسمها وتحديد مساراتها. إنّ القاعدة الدينية السلفية التي اعتمدتها بعض الأنظمة في قيامها وديمومتها بدأت تتقاطع مع تلك الأنظمة، حتى لقد وصل التقاطع إلى حد التصادم والطلاق. وقد أخذت مؤشراتها تتسارع لدرجة الاقتتال والتكفير.
إنّ أوضاع العراق المضطربة الآن، ألقت بظلالها على دول الخليج بدرجات متفاوتة، إلا أنها تؤشر بداية تكسّر قامت عليها قواعد الأنظمة هناك. فكيف الحال، لو نجحت التجربة العراقية. أكاد أنْ أجزم أنّ متغيّرات حادة وسريعة ستشهدها تلك الدول، منها:
1-تساهل في أسس المشاركة السياسية في الدول التي تتمتع بحياة برلمانية وتفاعلات في داخل تلك البرلمانات، ستؤدي حتماً في النهاية إلى تغيير قواعد اللغبة السياسية في تلك البلدان.
2-ستضطر دول لا تقوم أنظمتها على أسس دستورية إلى أن تدخل نادي الدول البرلمانية. عندها تتحطم القواعد القديمة، وتبدأ بإدخال إصلاحات وصولاً الى تغييرات شاملة، تأتي على قواعد البناء القديم، والمملكة العربية السعودية أقرب تلك الدول الى هذا الأمر.
جـ- سورياً:
إنّ تفكك النظام الشمولي في العراق، نظام الحزب الحاكم أو القائد والرئيس المنتخب مدى الحياة ستؤدي حتماً الى انهيار مثيلاته إنْ عاجلاً أو آجلاً. وعلى الحاكم في سوريا، أنْ لا يقع في الخطأ الذي وقع فيه حاكم العراق، ليجنّب بلاده شروراً ودماراً، وذلك من خلال التعامل مع المتغيرات المتسارعة في المنطقة، وتغليب مصلحة الوطن على مصلحة الأشخاص والحزب.
د- تركياً:
لعل أكثر الدول المتأثرة بالنظام الفدرالي في العراق هما تركيا وإيران، خاصة في موضوع القضية الكردية، إذ أنّ أكراد تركية الذين قمت ثوراتهم بالقوة، ولم يُعترف بهم مكوّناً قومياً كبيراً في تركيا، بل إن النظام التركي يصفهم بأنهم "أتراك الجبل"، سيتأثرون بشكل سريع بما حققه أبناء عمومتهم في العراق، فيكون ذلك دافعاً لتأجّج الثورة الكردية فيها، خاصة في ظل الدعم الأووربي غير المباشر لهم الذي يفرض على تركيا عدم استخدام القوة والاعتراف بحقوق الأكراد القومية، وأن تركيا وإنْ حاولت استيعاب الأمر، إلا أنّ الجذور التاريخية للقضية الكردية أعمق من أنْ يتم احتواؤها بهذه السهولة، إلا إذا اعتمدت الحكومة التركية النظام الفيدرالي أسلوباً للمحافظة على وحدة البلاد.
وأخيراً إن الأوضاع في العراق، والتغيّرات العميقة في بنائه السياسي ستؤثر في المحيط الإقليمي، وستفرض على الأنظمة العربية تغيير دساتيرها بدلاً من ذمّ الدستور العراقي، وسيتحوّل الأخير (الدستور العراقي) رغم الملاحظات المثارة حوله، والمقلِّلة من شأنه عراقياً وعربياً إلى مثلاً يُحتذى، إنْ عاجلاً أو آجلاً.