كلمة الأستاذ الدكتورعبد الله شاتي في تأبين أستاذنا المرحوم الدكتور كمال مظهر أحمد في 3 آيار 2021

5/3/2021

الأستاذ الدكتور كمال مظهر أحمد شامخ من شوامخ هذا الكوكب

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة على مَنْ شُرِّف بالصلاةِ عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

السلام عليك يا أستاذي العظيم الدكتور كمال ورحمة الله وبركاته ، وعلى روحك الطيبة النقية الراقية والمُحِّبة دائماً للخير ورحمة الله وبركاته .

السلام عليك يا أستاذي.. كما تعرفون، فإنّ ذكرَ المجرد، يستحضره لأنّ عوائق الزمان والمكان في عالم التجرد ملغاة. والمطلق سبحانه وتعالى دائماً معنا أينما كنّا ، أتمنى أن نلتفت إلى ذِكر مناقب أستاذنا بعض الوقت.

أنا الآن في موقف لا أحسد عليه، بالوقوف هنا لتأبين أستاذي العظيم، لأنني طالما دعوت الله تعالى أن يقف أستاذي ليسمعكم شيئاً بلغته الجزلة ذات البلاغة المحكمة والمترعة بالمعاني العميقة والمشرفة، لتأبين ابنه عبدالله، لكنّ حكمة الله شاءت غير ذلك، وأنّى لنا أن نفهم كنه حكمته جلّ وعلا. والراسخ في ذهني أنّ المرحوم شاتي أولدني بايولوجياً ، والدكتور كمال يرحمه الله كوّنني علمياً . هذه غير الأبوّة العامة على الأمة للنبي المصطفى ووصيه الأمين عليهما الصلاة والسلام. ومصداق ذلك قول الرسول الكريم صلوات الله عليه : "يا عليّ أنا وأنت أبوا هذه الأمة". ينتابني الآن شعورٌ يقطر ألماً وتفجعاً بفقد أستاذي لا تستطيع الكلماتُ مهما بلغتْ من شأو بلاغتِها أن تعبر عنه .

كان أستاذي قامة علمية كبيرة ، وأستاذاً جامعياً بالفعل والقلب والمظهر والسلوك. كان مصداقاً فعلياً للأستاذ الجامعي، كان صرحاً شامخاً من الصروح الشوامخ في هذا الكوكب . كان اتزان استاذي الدكتور كمال رحمه الله وهيبته وكياسته وكاريزمته يتمناها أصحاب الفخامة والجلالة .

امتاز عقل استاذي بالعمق في التحليل ، والسعة في الأفق وكان ذا فكر لمّاح يقظٍ مكّنه من النظر في التاريخ نظرة أعمق مما فعله غيرُه . وضع أستاذي نقاطاً كثيرة على "الحروف التائهة" ، بمعنى أنه درس ووقف أمام موضوعات وشخصيات لها أهميتها وتأثيرها، مثل ميكافيللي ، والنهضة الأوربية ، ومبادئ ولسن الأربعة عشر، فجاءت دراساته أصيلة، كاشفة، ومشرّفة.

كان أستاذي رضوان الله عليه أصفى عقول كلية الآداب عندما كانت قلعة للعلم الحق ، وأكثر أساتذتها اطلاعاً ومعرفة، وبذا سما الى ذروة المجد والشرف . وعُدّ عمله عند الكثيرين عملة صعبة في زمن الغش والتزوير .

ظل الدكتور كمال رحمه الله قابضاً على جمرة المبدئية والأمانة العلمية ، ولم يكن مصادفة أن يظل اسماً من ذهب، لم يهرب من أصوله الفكرية وانتمائه في وقت كان الكثيرون لا يراعون أي شرف أو ضمير في سبيل المال وغيره .

تمرّد أستاذي على سلطان المال والجاه من أجل ديدنه في قول الحق، وكان محباً للعلم بعيداً عن المتاجرة والأضواء. لعمري، لا يتمرّد على سلطان المال والجاه، إلا أصحاب النفوس الكبيرة!.

لا شك في أنّ الخصال العديدة التي تحلّى بها أستاذي الدكتور كمال، كانت واحدة منها تكفي لتجعل من يتحلى بها أهلاً للمحبة والاحترام . وجاءت الدنيا الى أستاذي أكثر من مرة ، فلم يلتفت إليها، مفضلاً البحث عن الحقيقة ، فعنده أن السعي وراء الحقيقة عمل مقدس . وكأنه كان يردّد مقولة الأمام علي عليه السلام الخالدة "غُرّي غيري " .

لا جدال في أن أستاذي الدكتور كمال رحمه الله برحمته الواسعة فارس الموضوعية بكل جدارة ، كما عُرف بتواضعه الى أقصى حدود التواضع. وقد قيل اسلامياً، لا يكمل الشرف الا بالتواضع ،فضلاً عن ذلك كان رمز الإحساس بالمسؤولية. لقد مكّن كل ذلك أستاذي من أن يصبح أسداً على التاريخ الحديث . لاسيما المعاصر منه .

لقد سطّر أستاذي أدخله الله الجنة بقلمه الذي كان - سُداه الصدق ولُحمته الأمانة - والمشبّع بحب العراق وشعبه، مجموعة من الكتب هي في حقيقتها درر لامعة وتحف علمية كبيرة. وفي الوقت الذي أصبح فيه فهم التاريخ فهماً خاطئاً، ساعدتنا كتبه في فهم حاضرنا ومستقبلنا كجزء أساسي لكينونة الامة. نذكر بعض من كتبه:

1- كتاب كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى ، الذي يُعدُّ من ألمع وأكبر درر الموضوعية في فهم التاريخ ، ومفخرة عراقية خالدة. ولا أبالغ اذا ما قلت إن عنوان أحد فصول هذا الكتاب "الكورد والدم الأرمني المراق" سيبقى يُذكرُ في أروقة الجامعات العالمية.

2- كتاب ميكافيللي ، الذي شرح فيه أستاذي بشكل علمي ودقيق جوهر افكار ميكافيلي وكنهها ، حتى أن القارئ له يخرج بفهم صحيح وإحاطة علمية راقية بأفكار ذلك العملاق .

3- كان بحثه عن مبادئ الرئيس ولسن، معمقاً لم يسبقه إليه أحد على حد علمي، فقد أثبت أستاذي بالأرقام والأدلة العلمية الموثقة أن هدف ولسن كان أساساً خدمة الرأسمالية الأمريكية ، لا حقوق الشعوب ولا حرياتها ولا تقرير مصيرها .

4- كتابان عن ثورة العشرين امتازا بالدقة والإحاطة والرغبة بتقديم كل ما يتعلق بالثورة بشكل علمي وموثق . كانت الثورة إحدى أهم اهتماماته العلمية. وكم تمنينا أن تؤسس الحكومة مركزاً لدراسات تاريخ الثورة، وأن تعين أستاذنا مديراً له . لكنّ طائفية النظام القومي، لم تتجاهل الثورة فحسب وإنما ، سرقتها بمنهجها المشبوه .

مواقفه رحمه الله :-

إذا كان الرجالُ مواقف ، فأن تاريخ حياة أستاذي حافل بالمواقف الكبيرة والشجاعة. ولعل أبرزها موقفه من الحرب العراقية – الايرانية فقد عقد معهد الدراسات القومية والاشتراكية الذي كان يديره الدكتور نزار الحديثي ، ندوة "علمية" عن الحرب ، وكانت لغة الرايخ الثالث ولغة أحمد سعيد ومحمد سعيد الصحاف هي الطاغية ، ولسان الجميع يقول " عليهم يخوتنا عليهم " إلا أستاذنا فقد كان له موقف مغاير تماما مذكّراً الجميع بأن ، ايران دولة مجاورة ، ولنا معها حدود تبلغ أكثر من ألف كيلو متر. لله درك يا أستاذي كنت كمن يؤذن في مالطا. والمعروف أن رئيس النظام البعثي بعد سنوات قال في رسالة في شهر آب 1990 الى الرئيس رفسنجاني إن ايران دولة جارة وهذا كل ما أرتموه.

فضلاً عن ذلك كان لأستاذي موقف بطولي آخر، وهو أن النظام البعثي قرر أن يعقد ندوة "علمية " كبيرة عمّا زعمه بالعدوانية في الشخصية الإيرانية ، وان يشارك بها كبار الخبراء والاكاديميين، وكان ذلك في صيف العام 1982بعد سلسلة الانتكاسات العسكرية التي مني بها النظام المذكور، الذي كان يقوده فرعون زمانه.

وكان كما يقولون "يعدم بالقطنة". أرسل رئيس جامعة بغداد أحدهم ليدعو أستاذي إلى المشاركة في تلك الندوة ، ويعني ذلك أن رئيس الجامعة كان يعرف " أوادمه " كما يقال ، أما الآن فأن رئيس القسم لا يعرف الجاهل من العالم ، كان رد استاذي على ذلك انه لا توجد عدوانية في الشخصية الايرانية ، وإنما العدوانية هنا ، فأن أي خلاف في الباب الشرقي يتحول الى دماء . الله يرحمك يا شجاع كم كنت كبيراً في هذا الموقف .

لم يتردّد أستاذي عن إعلان بعض مواقفه الفكرية صراحة ودون وجل أو تردّد . كان يَعدُّ كل نظرية أو فكرة قومية على أنها فكرة عنصرية وتعصبية . لا يخفى ما لهذه المواقف من دلالات فكرية واضحة ، فضلاً عما تحمله من تحدٍ واضح للنظام القومي القائم آنذاك . كما كان يذكّرنا دائماً ، بأنّ أكثر ما يخشاه على الأخوة العربيةالكوردية – وهو من أبرز رعاتها - مواقف القوميين العرب والقوميين الكورد.

واللافت في حياة أستاذي أنزله الله منزل الصديقين، علاقته مع طلابه ، فقد كان يحبهم حباً جمّاً. كما كان حفياً بهم حانياً عليهم وكانت طريقة إشرافه الأكاديمي متميزة، لا يجيدها الا هو. كان أحسن الله اليه ، يأخذ الطالب وموضوعه بكليته، وكان يسكب من روحه ووجدانه عليهما . لذلك حفر طلابه حبه في قلوبهم بحروف الامتنان الأبدي إن شاء الله . ولم يبخل في إيقاظ دفائن عقول طلابه بكل إخلاص ومحبة، والأروع من هذه العلاقة أنه اسبغ على البعض من طلابه ألقاباً لا تُنسى ، كانت بمثابة أوسمة شرف واعتزاز،فالدكتور طاهر البكاء ( أنحني إجلالاً وتقديراً لنظافة يديه وإخلاصه في جميع المواقع التي شغلها وحبه للعراق ) ، كان بمعدنه الأصيل، مفتاح عقله وأوفى الأوفياء إليه.

من جانبهم، عدَّ طلابه الدفاع عن أستاذهم العظيم كمال ، واجباً وطنياً مقدساً. وضرب البعض أمثلة رائعة في ذلك، أهمها، إنقاذ الدكتور طاهر أستاذنا من مشكلة كبرى، وهي أن استاذنا قام بتأليف كتاب عن كركوك، فأرسل مخطوطته الى جلال طالباني المطلوب رقم واحد عند النظام آنذاك في نهاية القرن الماضي ، فوصل الخبر الى الأمن العراقي بفعل اختراقه لمكتب جلال طالباني، فقامت الدنيا ، لكن ذكاء الدكتور طاهر وسرعة بديهته أنقذت أستاذنا من تلك المشكلة ، اذ اشترك الدكتور طاهر في مناقشة رسالة جامعية كان أحد اعضائها اللواء الدكتور مؤيد الونداوي، مسؤول الجامعات أمنياً الذي قال للدكتور طاهر يبدو أنّ أستاذك قد ألف كتاباً عن كركوك ، فرد الدكتور بالحال قائلاً: إن ذلك لم يكن سراً فقد اطلعت عليه وآخرون كثر، ولأن الدكتور مؤيد أكاديمي و موضوعي فقد اعتبر تأليف الكتاب عملاً أكاديمياً و ليس بالضرورة تُستهدف منه اموراً أخرى،. لله درك يا أبا هند وحفظك لآل البكاء ومعارفك وأصدقائك . كما كان للدكتور طاهر البكاء موقف آخر أثبت فيه مرة أخرى حرصه على كرامة أستاذنا ومكانته رحمه الله ، فبعد تجاوز أحد ضباط الأمن على أستاذنا لم يهدأ له بال حتى وصل الى وزير الداخلية سمير الشيخلي متجاوزاً قراره الذي ينمّ عن شجاعة وشعور عالٍ بالمسؤولية الوطنية بمقاطعة الحزب. ولما كانت للدكتور طاهر مشاكل سابقة مع سمير الشيخلي، بدا صعباً التدخل عنده لحل المشكلة. إلا أنه تجاوز ذلك، متصلاً بالشيخلي الذي لم يشأ أن تمر المقابلة من دون معاتبة الدكتور طاهر قائلا له :( ها جيت برجليك ) فرد عليه الدكتور طاهر: جئت بسبب موضوع عام وهو تجاوز أحد ضباطكم على أستاذي. لكنّ الشيخلي حاول ان يعرف ذلك الضابط دون جدوى ، وما كان منه إلا ان يبادر مشكوراً صباح اليوم التالي بالذهاب الى كلية الآداب معتذراً لأستاذنا.

إن الحديث عن أستاذي غفر الله له لا يكتمل الا بالحديث عن قرينته زوجته رفيقة دربه ، الحاجة شهلاء طاهر الحيدري ، التي خُلقت ومن دون أدنى مبالغة من طينة الوفاء . لقد كان حرصها طيلة السنوات الأربع الماضية على ان تكون بجانبه دائماً، مصرّة في أن تخدمه وترعاه رعاية تقطر حناناً وإخلاصاً فضلاً عن الحرص على شفائه من الأمراض التي داهمته على حين غرة . لقد كان وفاؤها أكبر من جبل قنديل ، وصبرها يقترب كثيراً من صبر زوجة أيوب عليهما السلام . كان ذلك محط إكبار واعتزاز كل من يعرف الدكتور كمال وخاصة طلبته .من حقنا الآن أن نقول للمرأة اليابانية ، لدينا أنموذج يبزُ وفاءك .

لا أملك مشاعري في هذه اللحظة ، الا أن اقول: أتمنى أن أقبل اقدامك يا منبع الوفاء وأصله

اللهم بحق حبه لشعبه وحب شعبه له ارحم استاذي

اللهم بحق حبه للكورد وحب الكورد له اغفر لأستاذي

اللهم بحق حبه لطلابه وحبهم له زحزحه عن النار

اللهم بحق حبه للشيعة وحب الشيعة له ادخله الجنة

اللهم بارك لأستاذي في الموت وما قبله وما بعده

ليس لديّ ، أنا الذي حوّلني الدكتور كمال أسكنه الله الجنة الى إنسان يحسن القراءة والكتابة ، الا أن أنادي مع طلابه، ومعارفه: وا كمالاه وا كمالاه!

اختم كلمتي هذه بانحناءة احترام وتقدير أبدي لك أيها الاستاذ الكبير

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

عبدالله شاتي عبهول

3/5/2021